فصل: سنة تسع وتسعين ومائة وألف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» (نسخة منقحة)



.سنة تسع وتسعين ومائة وألف:

استهل العام بيوم الاثنين فكان الفال بالمنطق وأخذت الأشياء في الانحلال قليلاً.
وفي سابعه جاءت الأخبار بأن الجماعة المتوجهين لإبراعيم بك في شأن الصلح وهم الشيخ الدردير وسليمان بك الآغ ومرزوق جلبي اجتمعوا بإبراهيم بك، فتكلموا معه في شأن ذلك، فأجاب بشروط منها أن يكون هو على عادته أمير البلد، وعلي أغا كتخدا الجاويشيه على منصبه. فلما وصل الرسول بالمكاتبة جمع مراد بك الأمراء وعرفهم ذلك، فأجابوا بالسمع والطاعة، وكتبوا جواب الرسالة وأرسلوها صحبة الذي حضر بها. وسافر أيضاً أحمد بك الكلارجي أغا أمين البحرين في حادي عشرة.
وفي عشرينه وصلت الأخبار بأن إبراهيم بك نقض الصلح الذي حصل، وقيل أن صلحه كان مداهنة لأغراض لا تتم له بدون ذلك، فلما تمت احتج بأشياء أخر ونقض ذلك.
وفي سادس صفر، حضر الشيخ الدردير وأخبر بما ذكر وأن سليمان بك وسليم أغا استمروا معه.
وفي منتصفه، وصل الحجاج من أمير الحاج مصطفى بك وحصل الحجاج في هذه السنة مشقة عظيمة من الغلاء وقيام العربان بسبب عوائدهم القديمة والجديدة، ولم يزوروا المدينة المنورة على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام، لمنع السبل، وهلك عالم كثير من الناس والبهائم من الجوع، وانقطع منهم جانب عظيم. ومنهم من نزل في المراكب إلى القلزم وحضر من السويس إلى القصير، ولم يبق إلا أمير الحج وأتباعه ووقفت العربان لحجاج المغاربة في سطح العقبة وحصروهم هناك ونهبوهم وقتلوهم عن آخرهم، ولم ينج منهم غلا نحو عشرة أنفار. وفي أثناء نزول الحج وخروج الأمراء لملاقاة أمير الحج، هرب إبراهيم بك الوالي وهو أخو سليمان بك الأغا وذهب إلى أخيه بالمنية وذهب صحبته من كان بمصر من أتباع أخيه وسكن الحال أياماً.
وفي أواخر شهر صفر، سافر أيوب بك الكبير وأيوب بك الصغير بسبب تجديد الصلح، فلما وصلوا إلى بني سويف حضر إليهم سليمان بك الأغا وعثمان بك الأشقر باستدعاء منهم، ثم أجاب إبراهيم بك إلى الصلح ورجعوا جميعاً إلى المنية.
وفي أوائل ربيع الأول حضر حسن أغا بيت المال بمكاتبات بذلك، وفي أثر ذلك حضر أيوب بك الصغير وعثمان بك الأشقر فقابلا مراد بكوقدم مراد بك لعثمان بك تقادم، ثم رجع أيوب بك إلى المنية ثانياً.
وفي يوم الاثنين رابع ربيع الثاني، وصل إبراهيم بك الكبير ومن معه من الأمراء إلى معادي الخبيري بالبر الغربي، فعدى إليه مراد بك وباقي الأمراء والوجاقلية والمشايخ، وسلموا عليه ورجعوا إلى مصر، وعدى في أثرهم إبراهيم بك، ثم حضر إبراهيم بك في يوم الثلاثاء إلى مصر ودخل إلى بيته وحضر إليه في عصريتها مراد بك في بيته، وجلس معه حصة طويلة.
وفي يوم الأحد عاشره، عمل الديوان وحضرت لإبراهيم بك الخلع من الباشا فلبسها بحضرة مراد بك والأمراء والمشايخ، وعند ذلك قام مراد بك وقبل يده وكذلك بقية الأمراء، وتقلد علي أغاء كتخدا الجاويشية كما كان، وتقلد علي أغا أغات مستحفظان كما كان، فاغتاظ لذلك قائد أغا الذي كان ولاه مراد بك وحصل له قلق عظيم، وصار يترامى على الأمراء ويقع عليهم في رجوع منصبه وصار يقول: إن لم يردوا إلي منصبي وإلا قتلت علي أغا. وصمم إبراهيم بك على عدم عزل علي أغا، واستوحش علي أغا وخاف على نفسه من قائد أغا، ثم أن أبراهيم بك قال: إن عزل علي أغا لا يتولاها قائد أغا أبداً. ثم إنهم لبسوا سليم أغا أمين البحرين، وقطع منها أمل قائد أغا وما وسعه إلا السكوت.
وفي منتصف جمادى الآخرة خرج عثمان بك المذكور بمماليكه وأجناده مسافراً إلى الصعيد بنفسه ولم يسمع لقولهم، ولم يلبس تقليداً لذلك على العادة، فأرسلوا له جماعة ليردوه فأبى من الرجوع. وفيه كثر الموت بالطاعون وكذلك الحميات ونسي الناس أمر الغلاء.
وفي يوم الخميس، مات علي بك أباظة الإبراهيمي فانزعج عليه إبراهيم بك، وكان الأمراء خرجوا بأجمعهم إلى ناحية قصر العيني ومصر القديمة خوفاً من ذلك. فلما مات علي بك وكثير من مماليكهم داخلهم الرعب ورجعوا إلى بيوتهم.
وفي يوم الأحد، طلعوا إلى القلعة وخلعوا علي لاجين بك وجعلوه حاكم جرجاً، ورجع إبراهيم بك إلى بيته أيضاً وكان إبراهيم بك إذ ذاك قائمقام.
وفيه مات أيضاً سليمان بك أبو نبوت بالطاعون.
وفي منتصف رجب، خف أمر الطاعون.
وفي منتصف شعبان ورد لخبر بوصول باش مصر الجديد إلى ثغر سكندرية وكذلك باش جدة، ووقع قبل ورودهما بأيام فتنة بالإسكندرية بين أهل البلد وأغات القلعة والسردار، بسبب قتيل من أهل البلد قتله بعض أتباع السردار، فثار العامة وقبضوا على السردار وأهانوه وجرسوه على حمار، وحلقوا نصف لحيته وطافوا به البلد وهو مكشوف الرأس وهم يضربونه ويصفعونه بالنعالات.
وفيه أيضاً وقعت فتنة بين عربان البحيرة وحضر منهم جماعة إلى إبراهيم بك وطلبوا منه الإعانة على أخصامهم، فكلم مراد بك في ذلك فركب مراد بك وأخذهم صحبته ونزل إلى البحيرة فتواطأ معه الأخصام ورشوه سراً، فركب ليلاً وهجم على المستعينين به وهم في غفلة مطمئنين، فقتل منهم جماعة كثيرة ونهب مواشيهم وإبلهم وأغنامهم، ثم رجع إلى مصر بالغنائم.
وفي غاية شعبان حضر باشة جدة إلى ساحل بولاق، فركب علي أغا كتخدا الجاويشية وأرباب العكاكيز وقابلوه وركبوا صحبته إلى العادلية ليسافر إلى السويس.
وفي غرة رمضان، ثارت فقراء المجاورين والقاطنين بالأزهر، وقفلوا أبواب الجامع ومنعوا منه الصلوات. وكان ذلك يوم الجمعة فلم يصل فيه ذلك اليوم، وكذلك أغلقوا مدرسة محمد بك المجاورة له ومسجد المشهد الحسيني، وخرج العميان والمجاورون يرمحون بالأسواق ويخطفون ما يجدونه من الخبز وغيره، وتبعهم في ذلك الجعدية وأرذال السوقة. وسبب ذلك قطع رواتبهم وأخبازهم المعتادة، واستمروا على ذلك إلى بعد العشاء، فحضر سليم أغا أغات مستحفظان إلى مدرسة الأشرفية وأرسل إلى مشايخ الأروقة والمشار إليهم في السفاهة وتكلم معهم ووعدهم، والتزم لهم بإجراء رواتبهم، فقبلوا منه ذلك وفتحوا المساجد.
وفي يوم الأحد ثامن شهر شوال الموافق لتاسع مسرى القبطي كان وفاء النيل المبارك، وكانت زيادته كلها في هذه التسعة أيام فقط، ولم يزد قبل ذلك شيئاً، واستمر بطول شهر أبيب وماؤه أخضر، فلما كان أول شهر مسرى زاد في ليلة واحدة أكثر من ثلاثة أذرع، واستمرت دفعات الزيادة حتى أوفى أذرع الوفاء يوم التاسع، وفيه وقع جسر بحر أبي المنجا بالقلوبية، فيعينوا له أميراً فأخذ معه جملة أخشاب ونزل وصحبته ابن أبي الشوارب شيخ قليوب، وجمعوا الفلاحين ودقوا له أوتاداً عظيمة، وغرقوا به نحو خمسة مراكب، واستمروا في معالجة سده مدة أيام، فلم ينجع من ذلك شيء وكذلك وقع ببحر مويس.
وفي يوم الخميس خرج أمين الحاج مصطفى بك بالمحمل والحجاج وذلك ثاني عشر شوال.
وفي يوم الاثنين ثامن عشر القعدة، سافر كتخدا الجاويشية وصحبته أرباب الخدم إلى الإسكندرية لملاقاة الباشا والله تعالى أعلم.

.من مات في هذه السنة ممن له ذكر:

مات الشيخ الإمام العارف المتفنن المقرئ المجود الضابط الماهر المعمر الشيخ محمد بن حسن بن محمد بن أحمد جمال الدين بن بدر الدين الشافعي الأحمدي ثم الخلوتي السمنودي الأزهري المعروف بالمنير، ولد بسمنود سنة 1099 وحفظ القرآن وبعض المتون، وقدم الجامع الأزهر وعمره عشرون سنة، فجود القرآن على الإمام المقرئ علي بن محسن الرملي، وتفقه على جماعة منهم الشيخ شمس الدين محمد السجيمي والشيخ علي أبي الصفا الشنواني، وسمع الحديث على أبي حامد البديري وأبي عبد الله محمد بن محمد الخليلي، وأجازه في سنة 1132 وأجازه كذلك الشيخ محمد عقيلة في آخرين، وأخذ الطريقة ببلده على سيدي علي زنفل الأحمدي، ولما ورد مصر اجتمع بالسيد مصطفى البكري فلقنه طريقة الخلوتية، وانضوى إلى الشيخ شمس الدين محمد الحفني، فقصر نظره عليه واستقام به عهده فأحياه ونور قلبه واستفاض منه، فلم يكن ينتسب في التصوف إلا إليه. وحصل جملة من الفنون الغريبة كالزايرجة والأوفاق على عدة من الرجال، وكان ينزل وفق المائة في المائة وهو المعروف بالمئيني، ويتنافس الأمراء والملوك لأخذه منه، وأحدث فيها طرقاً غريبة غير ما ذكره أهل الفن، وقد أقرأ القرآن مدة وانتفع به الطلبة وقرأ الحديث. وكان سنده عالياً فتنبه بعض الطلبة في الأواخر، فأكثروا الأخذ عنه. وكان صعباً في الإجازة لا يجيز أحداً إلا إذا قرأ عليه الكتاب الذي يطلب الإجازة فيه بثمامه، ولا يرى الإجازة المطلقة ولا المراسلة، حتى أن جماعة من أهالي البلاد البعيدة أرسلوا يطلبون منه الإجازة فلم يرض بذلك، وهذه الطريقة في مثل هذه الأزمان عسرة جداً. وفي أواخره انتهى إليه الشأن، وأشير إليه بالبنان وذهبت شهرته في الآفاق، وأتته الهدايا من الروم والشام والعراق، وكف بصره وانقطع إلى الذكر والتدريس في منزله بالقرب من قنطرة لموسكي داخل العطفة بسويقة الصاحب، ولازم الصوم نحو ستين عاماً، ووفدت عليه الناس من كل جهة، وعمر حتى ألحق الأحفاد بالأجداد، وأجاز وخلف وربما كتب الإجازات نظماً على هيئة إجازات الصوفية لتلامذتهم في الطريق، ولم يزل يبدي ويعيد ويعقد حلق الذكر ويفيد، إلى أن وافاه الأجل المحتوم في هذه السنة، وجهز وكفن وصلي عليه بالأزهر في مشهد حافل، وأعيد إلى الزاوية الملاصقة لمنزله وكثر عليه الأسف.
ومات الشيخ الإمام الفاضل الصالح علي بن علي بن علي بن علي بن مطاوع العزيزي الشافعي الأزهري، أدرك الطبقة الأولى من المشايخ كالشيخ مصطفى العزيزي والشيخ محمد السحيمي والدفري والملوي وأضرابهم، وتفقه عليهم ودرس بالجامع الأزهر وانتفع به الطلبة، وقرأ دروساً بمشهد شمس الدين الحنفي، وكان يسكن في بولاق ويأتي كل يوم إلى مصر لإلقاء الدروس. وكان إنساناً حسناً صبوراً محتسباً فصيحاً مفوهاً له اعتقاد في أهل الله. توفي تاسع ربيع الثاني سنة تسع وتسعين هذه.
ومات الإمام الصالح الناسك المجود السيد علي بن محمد العوضي البدري الرفاعي المعروف بالقراء، وهو والد صاحبنا العلامة السيد حسن البدري، ولد بمصر وحفظ القرآن وجوده على شيخ القراء شهاب الدين أحمد بن عمر الاسقاطي، وبه تخرج وأقرأ القرآن بالسبعة كثيراً بالجامع الأزهر وبرواق الأروام، وانتفع به الطلبة طبقة بعد طبقة. وكان له معرفة ببعض الأسرار والروحانيات وغير ذلك.
ومات الاختيار المفضل المبجل علي بن عبد الله الرومي الأصل مولى درويش أغا المعروف الآن بمحرم أفندي باش اختيار وجاق الجاويشية، كان لكونه خدم عنده وهو صغير اشتغل بالخط وجوده على المرحوم حسن الضيائي وعبد الله الانبس، وأدرك الطبقة منهم، ومهر فيه وأنجب، ولم يكونا أجازاه فعمل له مجلساً في منزل المرحوم علي أغا وكيل دار السعادة، واجتمع فيه أرباب الفن من الخطاطين، وأجازه حسن أفندي الرشدي مولى علي أغا المشار إليه، وكان يوماً مشهوداً. ولقب بدرويش وكتب بخطه كثيراً، وحج سنة 1171 واجتمع بالحرمين على الأفاضل وتلقى منهم أشياء، وعاد إلى مصر واجتمع بأديب عصره محمد بن عمر الخوانكي أحد تلامذة الشهاب الخفاجي، فتعلق بعنايته بالأدب وصار في محفوظيته جملة من أشعاره وقصائده، وجملة من قصائد الأرجاني وجملة من المقامات الحريرية، وعني بحفظ القرآن فحفظه على كبره، وتعب فيه وحفظ أسماء أهل بدر، وكان دائماً يتلوها. ولأجله ألف شيخناً السيد محمد مرتضى شرح الصدر في شرح أسماء أهل البدر، في عشرين كراساً، والتفتيش في معنى لفظ درويش كراساً. ولازم المذكور منذ قدم مصر وسمع عليه مجالس من الصحيح والمسلسل بالأسودين وبالعيد والشمائل والأمالي، وجود عليه شيخنا المذكور في الخط، وقد صاهرت المترجم وتزوجت بربيبته في أواخر سنة خمس وتسعين برغبة منه، وهي أم الولد خليل فتح الله عليه، ولما حصلت النسابة والمصاهرة حولته بعياله إلى منزلي لتعب الوقت وتعطيل أسباب المعايش. ولما عاشرته بلوت منه خيراً وديناً وصلاحاً، وكان لا ينام من الليل إلا قليلاً ويتبتل إلى مولاه تبتيلاً فيصلي ما تيسر من النوافل، ثم يكمل بتلاوة القرآن المرتلة مع التدبر لمعاني الآيات المنزلة، وكان حسن السمت نظيف الثياب عظيم الشيبة منور الوجه وجيه الطلعة مهيب الشكل سليم الطويلة مقبول الروحانية ملازماً على حضور الجماعة حريصاً على إدراك الفضائل. توفي جمادى الأولى عن نيف وتسعين سنة، ولم تهن قواه ولم يسقط له سن، ويكسر اللوز بأسنانه، ودفناه بجوار الإمام أبي جعفر الطحاوي لأنه كان ناظراً عليه رحمه الله.
ومات الأستاذ الفاضل والمستعد الكامل ذو النفحات والإشارات السيد علي بن عبد الله بن أحمد العلوي الحنفي سبط آل عمر صاحبنا ومرشدنا، ووالده أصله من توقاد، وولد هو في مصر سنة 1173، وعاني الفنون ومهر وأنجب في كل شيء عاناه في أقل زمن بحيث أنه إذا توجهت همته لعلم من العلوم الصعبة وطالع فيه أدركه وأظهر مخبئاته وثمراته، وألف فيه وأظهر عجائب أسراره ومعانيه في زمن قليل وكان حاد الذهن جداً دراكاً قوي الحافظة يحفظ كل شيء سمعه أو مر عليه ببصره، ولازم في مبتدأ أمره شيخنا السيد محمد مرتضى كثيراً وقرأ عليه الفصيح لثعلب وفقه اللغة للثعالبي وأدب الكاتب لابن قتيبة في مجالس دراية، وسمع منه كثيراً من شرحه على القاموس وكتب عنه بيده أجزاء كثيرة وقرأ عليه الصحيح في اثني عشر مجلساً في رمضان سنة ثمان وثمانين، وسمع عليه أيضاً الصحيح مرة ثانية مشاركاً مع الجماعة مناوبة في القراءة في أربع مجالس، ومدة القراءة من طلوع الشمس إلى بعد كل عصر، وصحيح مسلم في ستة مجالس مناوبة بمنزل الشيخ بخان الصاغة. وكتب الأمالي والطباق وضبط الأسماء، وقلد خط الصلاح الصفدي في وضعه فأدركه، وقرأ عليه أيضاً المقامات الحريرية ورسائل في التصريف، وغير ذلك مما لا يدخل تحت الضبط لكثرته. وسمع المسلسل بالعيد وبالأسودين التمر والماء. وسمع عليه أوائل الكتب الستة والمعاجم والمسانيد في سنة تسعين بمنهل شيخه مع الجماعة وجزء نبيط بن شريط الأشجعي وبلدانيات السلفي وبلدانيات بن عساكر وأحاديث عاشوراء تخريج المنذري وأحاديث يوم عرفة تخريج بن فهد وعوالي بن مالك وثلاثيات البخاري والدارمي، وجزأ فيه أخبار الصبيان والخلعيات بتماماها وهي عشرون جزءاً وعرف المترجم العالي من النازل، واجتمع بشخينا السيد العيدروس وقربه وأدناه ولازمه، وقرأ عليه أشياء من كتب الصوفية، ومال إليه وصار ينطق بالشعر، وأقبل على الأدب والتصوف ولا زال كذلك حتى صار يتكلم بكلام عال. وألف كتاباً في علم الأوفاق في كراريس لطيفة على نسق عجيب مفيد، وامتزج بالروحانية حتى أني رأيته ينزل الوفق في الكاغد ويضعه على راحة كفه فيرتعش، ويلتف ببعضه ثم ينبسط بنفسه كما كان، وإذا أخذه غيره ووضعه على مثل وضعه لا يتحرك أبداً. ومارس في علم الرمل أياماً فأدرك منتهاه واستخرج منه ما لا يستخرج الممارس فيه سنين من الضمير والمدة وغير ذلك في أسرع وقت، وألف فيه كتاباً لخص فيه قواعده من غير مشقة. ومارس في الفلكيات مع سليمان أفندي كنياذ وصنف فيه وفي غيره. وبآخره انجمع عن خلطة الناس وأقبل على ربه وكان قد تزوج بامرأة وكانت تؤذيه وتشتمه، وربما كانت تضربه، وهو صابر عليها مقبل على شأنه، وألف أوراداً وأحزاباً وأسماء على طريقة الأسماء السهر وردية عجيبة المشرب بنفس عال غريب، وصار يتكلم بكلام لا يطرق الأسماع نظيره، ولم يزل على ذلك حتى تعلل ولحق بربه، وتوفي في سادس ربيع الأول من السنة، وأعقب ولداً من تلك المرأة التي كان تزوج بها، وبالجملة والإنصاف أنه كان من آيات الله الباهرة. ودفن بالقرافة بتربة علي أغا صالح رضي الله عنا وعنه ورحمنا أجمعين.
ومات الشيخ الفقيه الدراكة العلامة السيد سليمان بن طه بن أبي العباس الحريثي الشافعي المقري الشهير بالأكراشي، وهي قرية شرقي مصر، وحفظ القرآن على الشيخ مصطفى العزيزي خادم النعال بمشهد السيدة سكينة، وأعاده بالعشر على الشيخ عبد الرحمن الأجهوزي المقري، وأجازه في محفل عظيم في جامع ألماس، وسمع وحضر دروس فضلاء وقته ومهر في فقه المذهب، ودرس في جامع الماس وغيره، وسمع من شيخنا السيد مرتضى المسلسل بالأولية بشرطه والمسلسل بالعيد وبالمحبة وبالقسم، وبقراءة الفاتحة في نفس واحد وبالالباس والتحكيم، وسمع الصيحين بطرفيهما في جماعة بجامع شيخون بالصليبة، وسمع أجزاء البلدانيات للحافظ أبي طاهر السلفي وجزء النيل وجزء يوم عرفة ويوم عاشوراء وغير ذلك. وله تآليف وجميعات ورسائل في علوم شتى. ولما اجتمع بشيخنا المذكور ورأى ملازمة السيد علي المترجم آنفاً به في أكثر أوقاته، ونظر نجابته وما فيه من قوة الفهم والاستعداد، لامه على ملازمته للسيد وانقطاعه عن بقية العلوم وقال له: هذا شيء سهل يمكن تحصيله في زمن قليل، وقد قرأت وحصلت ما فيه الكفاية، والأولى أن تشغل بعض الزمن بتحصيل المعقولات وغيرها، فإن مثلك لا يقتصر على فن من الفنون والاقتصار ضياع. فقبل منه واشتغل عليه وعلى غيره، وانقطع بسبب الاشتغال عن كثرة الترداد على الشيخ كعادته، وعلم ذلك فانحراف على كل منهما وبالخصوص على السيد علي، وصعب عليه جداً، وأدى ذلك إلى الانقطاع الكلي. ولما مات الشيخ العزيزي تنزل المترجم في مشيخة القراء بمقام السيدة نفيسة رضي الله عنها، وكان إنساناً حسناً جامعاً للفضائل، وحضر معنا الهداية في فقه الحنفية على شيخنا المرحوم العلامة الشيخ مصطفى الطائي الحنفي، وكان يناقش في بعض المسائل المخالفة لمذهبه، إلى أن وافاه الحمام في هذه السنة رحمه الله.
ومات أوحد الفضلاء وأعظم النبلاء العلامة المحقق والفهامة المدقق الفقيه النبيه الأصولي المعقولي المنطقي الشيخ أبو الحسن بن عمر القلعي ابن علي المغرب المالكي، قدم إلى مصر في سنة 1154، وكان لديه استعداد وقابلية، وحضر أشياخ الوقت مثل البليدي والملوى والجوهري والحفني والضيخ الصعيدي واتحد بالشيخ الوالد وزوجه زوجة مملوكه مصطفى بعد وفاته، وهي خديجة معتوقة المرحوم الخواجا المعروف بمدينة، وأقامت معه نحو الأربعين سنة حتى كبر سنها وهرمت، وتسرى عليها مرتين ولما حضر المرحوم محمد باشا راغب والياً على مصر اجتمع به ومارسه وأحبه وشرح رسالته التي ألفها في علم العروض والقوافي، ولما عزل راغب وذهب إلى دار السلطنة وتولى الصدارة، سافر إليه المترجم فأجله وأكرمه ورتب له جامكية بالضربخانة بمصر، ورجع إلى مصر وتولى مشيخة رواق المغاربة ثلاث مرات بشهامة وصرامة زائدة. وسبب عزله في المرة الوسطى أن بعض المغاربة تشاجر مع الشيخ علي الشنويهي وانتصر هو للمغاربة لحمية الجنسية، ونهر الشيخ علي فذهب الشيخ علي واشتكاه إلى علي بك في أيام إمارته، أحضره علي بك فتطاول على الشيخ علي بحضرة الأمير، وادعى الشيخ علي أنه لطمه على وجهه في الجامع، فكذبه المترجم، فحلف الشيخ علي بالله على ذلك، فقال له المترجم: احلف بالطلاق، فاغتاظ منه الأمير علي بك وصرفهما، وأرسل في الحال وأحضر الشيخ عبد الرحمن البناني وولاه مشيخة الرواق وعزل الشيخ أبا الحسن وانكسف باله لذلك، ثم أعيد بعد مدة إلى المشيخة وكان وافر الحرمة نافذ الكلمة معدوداً من المشايخ الكبار مهاب الشكل منور الشيبة مترفهاً في ملبسه ومأكله، يعلوه حشمة وجلالة ووقار، إذا مر راكباً أو ماشياً قام الناس إليه وبادروا إلى تقبيل يده، حتى صار ذلك لهم عادة وطبيعة لازمة يرون وجوبها عليهم. وللمترجم تأليفات وتقييدات وحواش نافعة، منها حاشية علي الأخضري على سلمه، وحاشية على رسالة العلامة محمد أفندي الكرماني في علم الكلام في غاية الدقة تدل على رسوخه في علم المنطق والجدل والمعاني والبيان والمعقولات، وشرح على ديباجة شرح العقيدة المسماة بأم البراهين للإمام السنوسي، وله كتاب ذيل الفوائد وفرائد الزوائد على كتاب الفوائد والصلاة والعوائد وخواص الآيات والمجربات التي تلقاها من أفواه الأشياه، وكتاب في خواص سورة يس وغير ذلك. وأخذ عن المرحوم الوالد كثيراً من الحكميات والمواقف والهداية للأبهري، والهيئة والهندسة. ولم يزل مواظباً على تردده عليه وزيارته في الجمعة مرتين أو ثلاثة، ويراعي له حق المشيخة والصحبة في حياته وبعدها، وكان سليم الباطن مع ما فيه من الحدة، إلى أن توفي في ربيع الأول من هذه السنة رحمه الله.
ومات الشيخ المعتقد عبد الله بن إبراهيم بن أخي الشيخ الكبير المعروف بالموافي الشافعي السندوبي الرفاعي نزيل المنصورة، ولد ببلده منية سندوب سنة 1140، وحفظ القرآن وبعض المتون، وقدم المنصورة فمكث تحت حيازة عمه في عفة وصلاح وحضر دروس الشيخ أحمد الجالي وأخيه محمد الجالي، وانتفع بهما في فقه المذهب فلما توفي عمه في سنة إحدى وستين أجلس مكانه في زاويته التي أنشأها عمه في مؤخر الجامع الكبير بالمنصورة، وسلك على نهجه في أحياء الليالي بالذكر وتلاوة القرآن، وكان يختم في كل يوم وليلة مرة، وربى التلاميذ وصارت له شهرة زائدة مع الانجماع عن الناس، لا يقوم لأحد ولا يدخل دار أحد وفيه الاستئناس، وعند فوائد يذاكر بها ويشتغل دائماً بالمطالعة والمذاكرة، واعتقده الخاص والعام. ولما سافرنا إلى دمياك سنة تسع وثمانين وجزنا بالمنصورة وطلعناها ذهبنا إلى جامعها الكبير ودخلنا إليه في حجرته، فوجدته جالساً على فراش عال بمفرده بجانب ضريح عمه، وهو رجل نير بشوش، فرحب بنا وفرح بقدومنا وأحضر لنا طبقاً فيه قراقيش وكعك وشريك وخبز يابس ولبن وبوسطه دقة وجبن فأكلنا ما تيسر وسقانا قهوة في فنجان كبير، وتحدث معنا ساعة، ودعا لنا بخير، وودعناه وسافرنا في الوقت. ولم أره غير هذه المرة. وهو إنسان حسن جامع للفضائل توفي في السنة ولم يخلف بعده مثله.
ومات السيد الإمام العلامة الفقيه النبيه السيد مصطفى بن أحمد ابن محمد البنوفري الحنفي، أخذ الفقه عن والده وعن السيد محمد أبي السعود والشيخ محمد الدلجي والشيخ الزيادي وغيرهم، وحضر المعقول على علماء العصر كالشيخ عيسى البراوي وغيره، ودرس في محل والده بالقرب من رواق الشوام، إلا أنه لم يكن له حظ في الطلبة، فكان يأتي كل يوم الجامع ويجلس وحده ساعة ثم يقوم ويذهب إلى بيته بسويقة العزى، وكان لا يعرف التصنع، وفيه جذب ويعود المرضي كثير الأغنياء والفقراء توفي في السنة رحمه الله.
ومات العلامة المتقن والفهامة المتفنن أحد الأعلام الرواسخ وشيخ المشايخ الفقيه النحوي الأصولي المعقولي المنطقي ذو المعاني والبيان وحلال المشكلات بإتقان، الصالح لقانع الورع الزاهد الشيخ محمد بن محمد بن محمد بن مصطفى بن خاطر الفرماوي الأزهري الشافعي البهوتي نسبة إلى قبيلة البهتة جهة الشرق، ولد بمصر رباه والده وحفظ القرآن والمتون، وحضر على أشياخ العصر الملوي والجوهري والطحلاوي والبراوي والبليدي والصعيدي والشيخ علي قايتباي والمدابغي والأجهوري، وأنجب فق الفقه والمعقول ودرس وأفاد الطلبة واشتهر بالفتوح على كل من أخذ عنه، حتى صار له المشيخة على غالب أهل العلم من الطبقة الثانية. وكان مذهب النفس جداً لين الجانب متواضعاً منكسر النفس لا يرى لنفسه مقاماً، يجلس حيث ينتهي به المجلس، ولا يتداخل فيما لا يعنيه، مقبلاً على شأنه ملازماً على الاشتغال والإفادة والمطالعة. ومما اتفق له أنه قرأ البخاري والمنهج صبية النهار والقطب على الشمسية في الضحوة والاشوني وقت الظهر وابن عقيل بعد العصر والشنشوري بعد المغرب، كل ذلك في آن واحد، ويحضره في ذلك جل الأفاضل، وهذا لم يتفق لغيره من أقرانه، ولم يزل على حالته حتى توفي في آخر يوم من رجب من السنة، وخلف ولده العمدة الفاضل الصالح الشيخ مصطفى على قدم والده وأسلافه من الإفادة وملازمة الإقراء، أعانه الله على وقته ونفع به.
ومات الشيخ الإمام العلامة والنحرير الفهامة محمد بن عبد ربه ابن علي العزيزي الشهير بابن الست، ولدسنة 1118 بمصر، وسبب تسميته بابن الست أن والدته كانت سرية رومية اشتراها أبوه وأولدها إياه، وكان قد تزوج بحرائر كثيرة فلم يلدن إلا الإناث، حتى قيل أنه ولد له نحو ثمانين بنتاً، فاشترى أم ولده هذا فولدته ذكراً ولم تلد غيره، ففرح به كثيراً ورباه في عز ورفاهية، وقرأ القرآن مع الشيخ علي العدوي في مكتب واحد، فلذلك اعتشر بالمالكية وصار مالكي المذهب. ولما ترعرع أراد الانتقال إلى مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه فرأى الشافعي في المنام وأشار عليه بعدم الانتقال، فاستمر مالكي المذهب وتفقه على الشيخ سالم النفراوي واللقاني والشبراملسي، وسمع على الشيخ عبد ابن علي النمرسي المسلسل بالأولية وأوائل الكتب الستة وسنن النسائي الصغرى المسماة بالمجتبي والمسلسل بالمصافحة والمشابكة والسبحة وغير ذلك، وأخذ عليه أيضاً ملا عصام على السمرقندية وشرح رسالة الوضع وشرح الجزرية لشيخ الإسلام وأوائل تفسير القاضي البيضاوي مع البحث والتدقيق، وأجازه بما يجوز له وعنه روايته بشرطه، وأخذ المعقول عن الشيخ أحمد الملوي والشيخ عبده الديوى والشيخ الاطفيحي والخليفي، وأخذ طريق الشاذلية عن الشيخ أحمد لجوهري والشيخ الملوي، وهما أخذاها عن سيدي عبد الله بن محمد المغرب القصري الكنكسي. وكان المترجم على قدم السلف لا يتداخل في أمور الدنيا ولا يتفاخر في ملبس ولا يركب دابة ولا يدخل بيت أمير ولا يشتغل بغير العلم ومدارسته، ويشهد له معاصروه بالفضل وإتقان العلوم والديانة. وسمعت منه المسلسل بالأولية وأجازني بمسموعاته ومروياته، وتلقيت عنه دائرة الشاذلي وأجازني بوضعها ورسمها ونقطة مركزها، كل ذلك في مجلس واحد بمنزلي ببولاق بشاطئ النيل سنة 1190. وكان يجيئني ويودني ويقول لي: أنت ابن خالتي لكون والدتي ووالدته من السراري. وصنف حاشية علي الزرقاني على العزية وهي مستعملة بأيدي الطلبة وديباجة وخاتمة على أبي الحسن على الرسالة، وخاتمة على شرح الخرشي وديباجة على أيساغوجي في المنطق، وحاشية علي الحفيد على العصام وتكملة على العشماوية، وشرحاً على آية الكرسي وشرحاً على الحوضية في التوحيد، ولم يزل مقبلاً على شأنه وحاله، حتى توفي في هذه السنة عن أربع وثمانين سنة رحمه الله تعالى.
ومات السيد الأجل المبجل السيد أحمد بن عبد الفتاح بن طه بن عبد الرزاق الحسيني الحموي القادري، ولد أبوه السيد عبد المفتاح بحماه وارتحل بكريميه رقية وفاطمة ابنة السيد طه، فزوج الأولى بأحد أعيان مصر بن حسين الشمسي، وهي أم أولاده حسن وحسين وعثمان ومحمود ورضوان، وتزوجت السيدة فاطمة بعلي أفندي البكري أخي سيدي بكري الصديقي فأولدها محمد أفندي نقيب السادة الأشراف، وهو والد محمد أفندي الأخير، وأقام والده السيد عبد الفتاح بمصر مدة وتنزل في بعض المناصب، ثم توجه إلى ملك الروم فأكرمه ووجه له بعناية بعض الأعيان نقابة الأشراف بمصر، وحضر إلى مصر وقرئ المرسوم الوارد بذلك، وكاد أن يتم له الأمر، فلم يمكن من ذلك بتوقية بعض الأمراء وحنقوا عليه حيث توجه من مصر إلى الروم خفية، ولم يأخذ منهم عرضاً وجعل له شيء معلوم من بيت النقابة، وبقي ممنوعاً عنها. وكان سيداً محتشماً فصيح اللسان بهي الشكل، وتزوج ببنت سيدي مكي الوارثي وولد له منها السيد أحمد المترجم، وتربى ببنت سيدي مكي الوارثي وولد له منها السيد أحمد المترجم، وتربى في العز والرفاهية ببيتهم المعروف بهم بالأزبكية بخط الساكت، وكان إنساناً حسناً مترفهاً في مأكله وملبسه منجمعاً عن الناس إلا لمقتضيات لا بد له منها. توفي رحمه الله في هذه السنة ولم يعقب.
ومات الشيخ الصالح الماهر الموفق علي بن خليل شيخ القبان بمصر، وكان ماهراً في علم الحساب ومعرفة الموازين والقرسطون المعروف بالقبان ودقائقه وصناعته، ولما عني المرحوم الوالد أمر الموازين وتصحيحها وتحريرها في سنة اثنتين وسبعين، وصنف في ذلك العقد الثمين فيما يتعلق بالموازين، طالعه عليه وتلقاه عنه مع مشاركة الشيخ حسن بن ربيع البولاقي، وأتقنا ذلك وتميزا به دون أهل فنهما. وكان المترجم إنساناً بشوشاً منور الشيبة ولديه آداب ونوادر ومناسبات، وحج مراراً أو أثرى وتمول ثم تقهقر حاله ولزم بيته، إلى أن توفي في هذا العام ولم يخلف بعده مثله.
ومات الشريف الحسيب النسيب السيد مصطفى بن السيد عبد الرحمن العيدروس وهو مقتبل الشيبية وصلي عليه بالأزهر ودفن عند والده بمقام العتريس تجاه مشهد السيد زينب، وكانت وفاته رابع عشرين ربيع الأول من السنة رحمه الله.